بين حكم فاسد واقتصاد حرّ “فاشل”… ما المطلوب لدعم الدواء والقمح؟
مُخطىء من يعتقد أنّ هشاشة النظام الاقتصادي وليدة اليوم، لكن محقّ من يحمّل السلطة الحالية وزر الإهمال والفساد؛ يكفي العودة إلى النظام الليبرالي الذي أطلقوا عليه اسم “الاقتصاد الحرّ” والذي بدأ منذ ما قبل عام 1975، لنكتشف الخلل الذي كرّسه هذا النظام في الدخل وتوزيع الثروات، والفرق الطبقي الذي أنتجه، بظلّ غياب نظام اقتصادي سياسي ومالي مدروس. سياسياً لعبت التناحرات الداخلية دورها، رافقتها تهديدات خارجية عدوانية أبرزها اجتياح اسرائيل للبنان عام 1982 الذي استمر حتى عام 2000 تصاعد فيه الإنكماش الاقتصادي بنسب عالية، إلى حرب أهلية أنتجت وصاية سورية، وما أعقبها من اغتيالات سياسية واقتتال داخلي ترافق مع توتّر في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط. كل هذه الأحداث وقعت في ظلّ وصاية مصرفية مسماة “السرية المصرفية المطلقة” ( قانون سرية المصارف صدر عام 1956) التي شكلّت غطاءً للتهرّب الضريبي وعمليات تبييض الأموال، وما نتج عنهما من استخدام كثيف للنقد الأجنبي وتحويله دون قيد أو شرط. سُمّي لبنان حينها “سويسرا الشرق” صحيح، إلاّ أنّ هذه التسمية جعلت لبنان ملجأ الرساميل الأجنبية المهربة، وملاذاً للتهرّب الضريبي. باختصار: بؤرة الفساد، من هنا، من هذه التسمية، بدأت.
فشل وفساد السلطة في الاقتصاد الحر والسياسات المالية
طوال تلك السنوات وحتى الساعة، لم تقم الحكومات السابقة أو اللاحقة بخطوات جدّية لمكافحة مرتع الفساد، أو لتحويل لبنان من بلد مستهلك لبلد منتج، خاصة على صعيد تنمية قطاعي الزراعة والصناعة، وبقيت السلطات المتعاقبة تنهش بالدولة فساداً على مبدأ المحاصصة والمحسوبيات في ظلّ دين عام بلغ 150 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ليصبح بذلك معدل لبنان بين أعلى معدلات المديوينة في العالم. وانخدع اللبنانيون في الأعوام الأخيرة بوعود اصلاحية ومحاربة للفساد من فرقاء غطسوا بأنفسهم في المنظومة وشدّوا الخناق على الوطن الغارق فأغرقوه أكثر.
وبوقت يواجه اللبناني تهديداً بلقمة عيشه ومحروقاته وأدويته، بعد ما أعلنت مصادر من مصرف لبنان عن نيته رفع الدعم عن العناصر الحيوية الثلاث، أكدّت الصحفية المختصة بالشأن الاقتصادي محاسن مرسل في اتصال مع “أحوال” أنّ دور الحكومة أساسيّ للقيام بالاصلاحات الضرورية والسريعة، ولفتت “أنّ هذا من شأنه أن يحرّر أموال مؤتمر سادر حيث ندخل في برنامج مع صندوق النقد، بدوره سيؤدي الى توافر الدولار، مستدركة “أنّه لا بد من خلق الثقة لتشجعيع المستثمرين من الداخل والخارج.”
واقترحت مرسل طلب الدعم الدولي بحيث يتم تأمين هذه الموارد بأسعار مقبولة أو عن طريق منح أو هبات، شرط أن تستفيد منها الطبقة الفقيرة والمتوسطة “وإلاّ نحن أمام كارثة”. وأعطت مرسل مصر كمثال، حيث دخلت في برنامج مع صندوق النقد واستطاعت تحسين قيمة الجنيه أمام الدولار الأميركي.
إذاً، فشلت السلطات المتعاقبة في وضع سياسات وآليات مالية تنهض بالبلد، وعوّضت عن ذلك بالفساد المستشري في كل أروقة الدولة. في المقلب الآخر، يظهر محلّلون كي يفضحوا “نظام الإقتصاد الحر” في لبنان، حيث الأساس في اتباع أي نموذج اقتصادي يستند إلى الأفكار الاقتصادية الكبرى التي حكمت التاريخ، هو بوجود إستراتيجيات اقتصادية للدول تطوّع النموذج على الظروف الخاصة بكل بنية اقتصادية. وهنا تساءل الخبير الاقتصادي د.بيار الخوري: أيّ استراتيجية اقتصادية يتبع لبنان؟
وكتب الخبير الاقتصادي لصحيفة الجمهورية “البحث عن الحرّية الاقتصادية بما هي حرّية تنافسية تقوم على الكفاءة غير متوفرة في هذا النموذج،” لافتاً أنّ الحرّيات الوحيدة التي كان يوفرها هذا النموذج هي حرّية تحريك الأموال ونظام القطع العائم المدار من قِبل المصرف المركزي. وشرح الخوري أنّ هناك توثيقاً رسمياً اليوم لضياع الثروات المودعة في المصارف، وظواهر سوريالية لتعدّد أسعار الصرف في ظل سعر صرف رسمي، مضيفاَ أنّ “آخر أوراق التين لحرّية اقتصادية مزعومة قد سقطت، فأي نظام اقتصادي حرّ هو هذا؟”
وعن دور الحكومة المستقيلة بتخفيف الأعباء، قالت مرسل أثبتت الحكومة فشلها بالشقين الاقتصادي والمالي؛ “فقد لجأت الحكومة مع مصرف لبنان لطابع النقد كي تغطي نفقاتها، وهذا أدّى إلى تراجع قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 80 بالمية، مّما سبب تآكلاً في القدرة الشرائية للمواطن”، ولفتت مرسل أنّ مصرف لبنان قام بهذه الخطوة حتى يخفف من المطلوبات المستحقة للمصارف، والمصارف قامت بإعطاء اللبناني ودائعه بالدولار بالليرة اللبنانية، مّما أدّى إلى ارتفاع الكتل النقدية بالليرة اللبناية إلى 21 ألف مليار وسبّب انخفاض قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار. وأكدت مرسل أنّ الفساد والمحاصصة لم يعد ينفعا بالحكم، لافتة أنّ “الطبقة السياسية أثبتت فشلها، ونحن بحاجة إلى وجوه جديدة تتمتع بمصداقية وثقة الخارج والداخل.”
اللبناني المهدّد بالرغيف والدواء والوقود
اليوم حلّت كارثة جديدة على اللبنانيين الذين أصبحوا مهدّدين برفع الدعم عن الوقود والخبز والدواء. ويأتي هذا التخوّف الذي كشفته مصادر من مصرف لبنان، بوقت يواجه المواطن المتضرّر من انفجار بيروت صعوبات مادية في لملمة مخلّفات دمار بيته وشركته، وفي ظلّ انهيار قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار، وانخفاض القدرة الشرائية ، يقابلهم اقفال تام للبلاد جعل الوضع التجاري في أسوأ حالاته لمكافحة فيروس كورونا، وما نتج عنها من خسائر فادحة. وأكد رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس أنّه خلال 9 أشهر أُقفلت مؤسسات أكثر مما أقفل في 20 سنة في البلد، والقطاع الخاص يتركه 25 الف موظف شهرياً. وأشار إلى أنّه “منذ نهاية عام 2011 حتى تشرين الأول 2019 انخفضت المبيعات بنسبة وسطيّة هي 40%. وبين تشرين الأول الماضي وآذار 2020، ناهزت نسبة انخفاض المبيعات 70%”.، وأعلن شماس أنّه في النصف الأول من السنة الحالية “بلغت نسبة الإقفالات النهائيّة 25% في بيروت والمناطق”. وأضاف “تشير التوقّعات إلى أنه حتى آخر2020 ، ثلث المحلات فقط سيبقى مفتوحاً”.
وبدل أن تقوم الدولة بدعم المواطن في أكحل ظروفه، تفرض عليه طوقاً جديداً وتهدّده بلقمة عيشه، وصحته، ووقوده.عن مسؤولية مصرف لبنان في هذا الإطار لفتت محاسن مرسل أنّ المصرف كان يؤمن دعم هذه الموارد بمبالغ مالية بالدولار الأميركي بنسبة 85 بالمئة من أصل الإعتماد. وبحسب مصرف لبنان، لا يمكنه تأمين الدعم لأنّه بعد ثلاثة أشهر سيصل مبلغ الإحتياطي الإلزامي 17 مليار وخمسمية مليون دولار، وهذا الإحتياط لا يمكن المسّ به، في حين هو يستورد_ بحسب قول المصرف، بقيمة 700 مليون دولار ( أدوية وقمح، ومحروقات). بالمقابل كشفت مصادر مطلعة على الملف أنّ القيمة لم تكن تصل إلى 300/ 400 مليون دولار.
وحملّت مرسل القطاع المصرفي المسؤولية “لأنّه أساء التصرف والإئتمان بالحفاظ على أموال الناس، حيث أقرضها للدولة اللبنانية، وقام بتوظيفات ومحاصصات، وأنشأ هندسات حققت أرباح خيالية، وزّع فيها الأرباح على المحظيين منه”. ولفتت أنّ “مسؤولية المصرف أن يرد الأموال لصغار ومتوسطي الودائع، وبالتالي لا يتحجج بالدولة.”
وكشفت أنّ مشكلة المصرف بالدولار، هو أنّه ديّن الدولة بحوالي 11-12 مليار دولار، و”هذا ليس ذريعة”.. وطالبت الصحفية الاقتصادية المصرف المركزي ومجلس إدارته باستعادة أموال الناس، والأموال المهرّبة كي يتم إنقاذ البلد، كما يمكن للمصرف التصرّف بالأصول وبيعها ورد أموال الناس.
وكانت جريدة الأخبار قد كشفت في حزيران الماضي عن خطة الحكومة ومصرف لبنان إلغاء الدعم عن المحروقات والخبز، مقابل إعطاء الفقراء قسائم تعوّض الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق، وبحسب “الأخبار” أرادت الحكومة بهذا القرار تسويق رفع الدعم “كشبكة رعاية اجتماعية” فيما رفع «الدعم»، يعني زيادة الأسعار بنسبة 100 في المئة على الأقل.
ولفت خبراء أنّ من أهم التحديات الاقتصادية هو زيادة نمو الناتج المحلي والذي كان في العام 2019 سلبياً وبلغ حوالي 6.9%، وهو من أسوأ المعدلات التي مرّت بالتاريخ اللبناني وخاصة بعد الحرب الأهلية. ووفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي من المتوقع أن يكون نمو الناتج سلبياً وأن يبلغ 12% في العام 2020، وهذا يعني أنّ الاقتصاد الحقيقي يتّسم بانكماش ملحوظ وكبير في ناتجه المحلي.
لطيفة الحسنية